من هدير محركات الفورمولا 1 إلى أناقة بطولات التنس العالمية، تضخّ المملكة العربية السعودية مليارات الدولارات في الرياضة ليس بدافع الشغف الرياضي، بل ضمن مسعى ممنهج لإعادة تشكيل صورتها أمام العالم. فالمسألة لا تتعلق بالتفوّق الرياضي، بل بـ”تبييض السمعة” عبر الرياضة: توظيف الأحداث الرياضية الكبرى لصرف الأنظار عن سجل طويل من الانتهاكات.
سواء كان ذلك من خلال الترشح لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034، أو الاستثمار المكثف في بطولات التنس، أو تنظيم كأس السوبر الإيطالي، باتت الرياضة أداة مركزية في استراتيجية العلاقات العامة السعودية. ويتجلّى هذا بوضوح في سباق الفورمولا 1 للجائزة الكبرى، الذي يُقام سنويًا في مدينة جدة منذ عام 2021. نُظّمت نسخة عام 2025 في 20 أبريل على حلبة كورنيش جدة، في عرض مبهر صُمّم بعناية ليلفت الأنظار ويغطي على أزمة حقوق الإنسان المستمرة في البلاد.
لكن في الوقت الذي يتابع فيه الملايين السباق من المدرجات أو عبر الشاشات، هناك مشهد مختلف كليًا يدور في الظل. فقد نفّذت السلطات السعودية خلال عام 2024 ما مجموعه 345 عملية إعدام. رقم صادم، يزيد بأكثر من الضعف مقارنةً بالعام الذي سبقه. ومن بين من أُعدموا، كان هناك ما لا يقل عن 138 من الأجانب، كثير منهم خضعوا لمحاكمات سريعة دون فرصة حقيقية للدفاع عن أنفسهم. كما أُعدم عدد كبير في قضايا تتعلق بالمخدرات، في مخالفة واضحة للقانون الدولي الذي يحظر تنفيذ عقوبة الإعدام في مثل هذه الحالات.
وفي أواخر عام 2022، أنهت المملكة تعليقًا مؤقتًا على هذه الإعدامات، ومنذ ذلك الحين، شهدت الأرقام ارتفاعًا حادًا. في المقابل، يستمر القمع ضد المعارضين السلميين: نشطاء، صحفيون، وأصوات مستقلة كثيرًا ما يُعتقلون أو يُجبرون على الصمت.
ومع ذلك، في مارس 2025، لم تكن العناوين تتحدث عن الإعدامات أو الاعتقالات التعسفية، بل عن عطلة نهاية أسبوع السباق في جدة: الأضواء الساطعة، والرعاة الفاخرون، والإثارة العالية في سباق الجائزة الكبرى السعودي. لقد تحوّل هذا الحدث إلى محور متلألئ في حملة المملكة لتلميع صورتها حملة تُصدّر مشاهد الحداثة والحماس والانفتاح العالمي، بينما تُخفي عن الأنظار التدقيق في سجل النظام القمعي.
وليس هذا محض صدفة. فقد حذّرت صحيفة “الغارديان” منذ عام 2020 من أن سباق الفورمولا 1 مهدد بأن يتحوّل إلى أداة لصرف الانتباه، تغطّي على الواقع اليومي من القمع والانتهاكات. وبحلول عام 2021، اشتد الضغط، حيث دعت منظمات حقوق الإنسان إدارة الفورمولا 1 إلى كسر صمتها ومواجهة الانتهاكات. لكنها اختارت الاستمرار كالمعتاد.
وليس هذا المثال الوحيد. ففي تحليل حديث، أشار نشطاء حقوقيون إلى نمط أوسع: مؤسسات رياضية كبرى تقيم شراكات طوعية مع أنظمة سلطوية، على الرغم من التحذيرات والإشارات الحمراء الواضحة. ولم تُظهر الفورمولا 1 أي مؤشرات على تطبيق إجراءات جدّية للعناية الواجبة في مجال حقوق الإنسان داخل السعودية. أما الرعاة التجاريون، فيواصلون الاصطفاف، والهيئات المنظمة للرياضة تلتزم الصمت رغم تزايد الأدلة على التواطؤ.
وليست هذه المرة الأولى. ففي عام 2014، أثناء حملة القمع العنيفة ضد احتجاجات المطالبة بالديمقراطية في البحرين، كانت شركة “فورمولا ون مانجمنت ليمتد” موضوع شكوى رسمية قُدّمت إلى “نقطة الاتصال الوطنية” في المملكة المتحدة، بموجب المبادئ التوجيهية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للشركات متعددة الجنسيات. وقد رفعت الشكوى منظمة “أميركيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين”، واتهمت فيها الفورمولا 1 بتسهيل الانتهاكات من خلال المضي في إقامة السباقات رغم العنف. كما سلّطت الشكوى الضوء على فشل المؤسسة في تقييم أو التخفيف من الأضرار المرتبطة بوجودها.
وعلى الرغم من تعهّد الفورمولا 1 لاحقًا بتبنّي سياسة لحقوق الإنسان، لم يُنفّذ أي إجراء ملموس. وبعد أكثر من عقد، تستمر السباقات لكن الضمانات لا تزال غائبة.
هذه هي الكُلفة الحقيقية للصمت. وبينما يهتف المشجعون في المدرجات والصالات الفاخرة، يبقى الأشخاص الأكثر تضررًا من هذه الأحداث من سُجنوا أو أُسكتوا أو أُعدموا خارج المشهد، لا يُرَون ولا يُسمَعون. لقد أتقن النظام السعودي فنّ الإلهاء، وأصبحت الفورمولا 1 شريكًا طوعياً في هذا الوهم.
إذا كانت الفورمولا 1 ومؤسسات الرياضة العالمية جادّة فعلًا في التزامها الأخلاقي، فعليها أن تتحرك الآن. ويعني ذلك فرض تدقيق فعلي في قضايا حقوق الإنسان، والاستماع إلى أصوات المجتمع المدني، والاستعداد للانسحاب حين تكون الحريات الأساسية على المحك. إلى أن يحدث ذلك، لن يصدح مضمار جدة فقط بصوت المحركات بل بكل ما يختار العالم تجاهله.